مقال ....
العود للتجسد
لا
يمكن البحث
في كارما بدون التحدث عن التقمص، الذي هو مختلف تماماً عن تناسخ الأرواح
metempsychosis في
أجسام حيوانية، لأن التطور في الكون تطور تصاعدي. فالروح الإنسانية،
أو بالأصح الثالوث العلوي (الذي يضم آتماatma
، والجسم
الإشراقي بودهي buddhi،
والعقل ماناس manas، كما
بينَّا) هو الذي يتجسَّد من حياة إلى حياة في المملكة الإنسانية. فالروح
الإنسانية تعود للتقمص في مَرْكَبات vehicles (أجسام) إنسانية، لا حيوانية؛ إذ إن الوعي والتطور يسيران للأمام
وليس للوراء، في عملية انفتاح، وليس انغلاق. فالتجلِّي له مخطط؛ وهذا المخطط
هو التطور؛ وكارما هو القانون الذي يسهر على تحقيق هذا المخطط؛ والتقمص هو
وسيلة عمل كارما في المملكة الإنسانية، على المستويات كلِّها، بما فيها
المستوى الأخلاقي.
*
والتقمص هو
بالحقيقة عقيدة تتضمنها المسيحية. وقد لمَّح لها السيد المسيح في كلامه عن
النبي إيليا في عودته (تقمُّصه) بجسم جديد دُعِي يوحنا المعمدان. وحسبنا
التأمل في كلام المسيح لنيقوديموس: "إن لم تولدوا من جديد لن تدخلوا ملكوت
الله"، لكي نقرأ في هذا القول، على أحد مستويات تأويله، إشارة إلى التقمص.
فلقد كانت عقيدة التقمص منتشرة في العالم المسيحي، اليوناني والروماني.
وقبلئذٍ تكلم عليها أفلاطون وفيثاغوراس وسقراط وعدد من آباء الكنيسة الذين
اضطُهِدوا نتيجة التأثير اليهودي، أو تأثير مَن يُطلَق عليهم اسم "المسيحيين
المتهوِّدين" الذين رفضوا عقيدة التقمص، التي هي من أسمى ما وُجِد في العقائد
المسيحية الأولى.
*
التطور الإنساني
للوصول إلى الكمال لا يتم بين ليلة وضحاها. لذا فإن الروح تحتاج إلى تجسُّدات
عديدة لتنقية الشوائب العالقة بها، وتعلُّم الدروس التي رفضتها سابقاً،
وإصلاح أخطائها بحق الذين أساءت إليهم في حيوات سابقات. وفي المآل، أليس من
العدل والرحمة إتاحة الفرصة مرات عديدة أمام النفس للتوبة وإصلاح العيوب،
بدلاً من إلقائها في نار أبدية؟ ولا ننسينَّ أننا ندرك أنه، في أغلب الأحيان،
توجد ظروف اجتماعية أو غيرها تسبب للإنسان أخطاء وهفوات قد لا يرتكبها لو
وُلِد في بيئة مختلفة أو في بلد آخر؟ أليس أكثر رحمة وعدلاً أن نتيح للتلميذ
فرصة إعادة الصف الذي رسب فيه، بدلاً من طرده من المدرسة وحرمانه من العلم
الذي يعني المعرفة؟ ومن جهة ثانية، فالقوانين الكونية تقول لنا إن المحدود لا
ينتج عنه شيء غير محدود أو أبدي. بمعنى آخر، فإن حياة واحدة تقدَّر بمائة سنة
مدةٌ محدودة لا تسبِّب البقاء في جهنم مدة غير محدودة وأبدية.
*
لاشك
أن القارئ المطَّلع على الأبحاث التي تعالج موضوع التقمص قد قرأ أو سمع بكتاب
عشرون حالة توحي بالتقمص للباحث إيان ستيفنسون[6]. ففي
هذا الكتاب يبحث ستيفنسون في عشرين قصة تقمُّص ثبتت صحتها (بحسب رأي الكاتب)
من أصل مئات القصص التي راجعها وتقصَّاها شخصياً من بلد لآخر في العالم
كلِّه. ولكن لنا، للأسف الشديد، اعتراض كبير على تحليلات هذه القصص
والتفسيرات التي قُدِّمت في هذا الكتاب لإثبات صحة الوقائع الواردة فيه والتي
كان يُفترض أن تُمحَّص ويُدقَّق فيها جيداً قبل البت في أمرها.
إن
معظم حالات "النطق" ليست دليلاً على صحة التقمص؛ إذ توجد في الكون أسرار
خافية عن الناس العاديين، بمن فيهم إيان ستيفنسون (مع احترامنا الكبير
للمجهود الذي بذله في دراسة حالات التقمص التي وردت في كتابه). لكننا نستطيع
أن نوجز بعض التفسيرات والشروح لبعض القصص "التقمُّصية" الواردة في الكتاب
اعتماداً على الدراسات الثيوصوفية التي أوردها الباحث الثيوصوفي جان لويس
سييمونس القدير في كتابه شهادات وبراهين على التقمص[7].
أ.
التفسير البديهي: "النطق" هو استعادة ذكريات الطفولة المنسية إلى السطح في
ظروف وأحداث معينة، مما يوحي للإنسان بأنه عاش حياة سابقة. لكن هذه الذكريات
في الحقيقة ليست سوى الماضي الكامن للإنسان نفسه.
ب.
التفسير النفساني: وهو طرح الشخصية الحقيقية لشخصية وهمية في الحلم نتيجة
الضغط النفسي الذي يعانيه الإنسان نفسه، مما يوحي له، وهماً، بأنه عاش شخصية
مختلفة في حياة ماضية.
ج.
التفسير العلمي: حسب جان شارون، الفيزيائي الفرنسي الكبير، هناك ذاكرة كونية،
هي عبارة عن سلسلة متواصلة من الأحداث والترابطات بين أفراد البشرية قاطبة،
أو هي نوع من اللاوعي الجمعي، حسب كارل غوستاف يونغ. أي أن الخافية الجمعية
collective
unconscious تظهر بمثابة
محصلة للترسبات المتراكمة للبشرية. فقد يحدث أحياناً أن شخصاً ما لديه حساسية
مرهفة يتلقى، عن غير وعي منه، الإسقاطات النفسية والفكرية لإنسان مات منذ زمن
بعيد عن طريق النور الكوكبي المحيط بكوكب الأرض. (هذا النور هو المستودع لكل
أحداث كوكبنا الأرضي، بما فيها أحداث حياة جميع من وطئ هذه الأرض منذ بدء
الخليقة.) وهذه الإسقاطات توحي بأنها ذكريات للشخص نفسه الذي يعتقد أنه كان
شخصاً آخر في زمنٍ ماضٍ.
د.
التفسير البارابسيكولوجي: وهو ما يُعرَف باسم "الإدراك الحواسي الفائق"
ESP؛ وهي
قدرة الإنسان، بواسطة أحاسيسه المرهفة الفوقطبيعية، على التقاط أحداث تاريخية
حقيقية جرت لأشخاص عاشوا على كوكب الأرض في أزمنة تاريخية مختلفة، وبالتالي،
اعتقاده أنها أحداث تخصُّه هو بالذات وعاشها في حياة سابقة. ومن المعروف
علمياً استحالة اندثار أية ذراتٍ أو أصوات أو أشعة في الكون، مهما امتد
الزمان بها. فأية فكرة تخطر في أذهاننا تنتج عنها اهتزازات تبقى إلى الأبد
محيطة بكوكب الأرض؛ وبالتالي فإن الإنسان الذي يتمتع بقدرة إحساس فوقطبيعية
يستطيع التقاطها وتجسيمها عن غير وعي في أحلامه والإيمان "يقيناً" بأنها
تخصُّه هو بالذات.
هـ.
التفسير التليباثي (التخاطري): وهو التقاط أفكار أشخاص معينين واعتناقها،
وكأنها أحداث ماضية لحياة سابقة. ويدخل ضمن هذه الأمور أيضاً قدرة
الاستبصار
clairvoyance
والتنويم
المغناطيسي hypnosis، حيث
يدَّعي المرء، تحت تأثير التنويم المغناطيسي، بأنه كان شخصاً آخر في حياة
سابقة. لكن الأمر يختلف تماماً عما يحصل في الواقع؛ إذ إن الشخص المنوَّم، في
هذه الحالة، يتلقى لاواعياً أفكار الوسيط، أو أحد المحيطين به، ويقوم الذهن،
بالتالي، بـ"فبركة" قصة وهمية تستند إلى بعض المعطيات الحقيقية التي تسبب
توهُّم التقمص.
و.
التفسير الأرواحي spiritualist:
ورائد الأرواحيين في هذا المجال هو ألان كاردك الذي ادَّعى إمكانية إجراء
اتصالات روحية مع الموتى. لكن هذه النظرية مستحيلة – إلا في حالات استثنائية
جداً – لأن الاتصال الروحي للوسيط مع الميت سيسبب قراءته (لاواعياً) أحداث
حياة هذا الميت، وبالتالي إسقاط هذه الأحداث عليه وانتحاله شخصيته، وكأنها
ذكريات لحياة ماضية توحي بأنها دليل على التقمص.
ز.
التفسير الثيوصوفي: سنتوسع في هذا الموضوع مطولاً في الجزء المتعلق بالموت
وصيرورته، وسنوضح كيفية تلاشي الأجسام، والمراحل التي تمر بها الروح، منذ
انطلاقها من الجسم المادي حتى دخولها إلى ديفاخان، أو ما يُعرَف بالسماء.
ولكننا نستطيع حالياً أن نقول إن السيدة بلافاتسكي، مؤسِّسة الجمعية
الثيوصوفية، تعتبر أن الادعاء بأن شخصاً ما هو تقمص أو تجسد لنابليون، مثلاً،
ادِّعاء باطل، لسبب وجيه جداً، ألا وهو أن المدة التي تمتد بين الموت
والتقمص، أو العود للتجسد من جديد، طويلة جداً بالنسبة للإنسان العادي؛ إذ هي
تتراوح بين 1000 و1500 عام تقريباً. وفي حالتنا هذه فإن موت نابليون لم يمر
عليه زمن كافٍ لكي يدَّعي أحدهم بأنه "كان" نابليون في حياته السابقة، وقد
عاد للتقمص من جديد. ونورد ملاحظة أيضاً بأنه يوجد استثناء بهذا الصدد، وهو
أن الأطفال الصغار يتجسَّدون من جديد فور وفاتهم، سواء بعد أيام أو أسابيع أو
أشهر، ويمتلكون الجسم النوراني نفسه الذي كان بحوزتهم في حياتهم السابقة.
(سوف نعود لاحقاً لهذه النقطة، وسنعرض كذلك بعض العلامات أو الدلائل التي
تترافق مع حالات تقمُّصية في الدراسات القادمة.)
***