الربح من مشاهدة الاعلانات

Wikipedia

نتائج البحث

الخميس، 22 سبتمبر 2016

الفراسة والخداع، الخوارق والسنن، والخرافات والأساطير



د. خالد عبدالله الخميس

من كتاب "من كل فن قطرة ومن كل علم فقرة".

 هل الفراسة علم أم إلهام؟. هل تفسير الأحلام مقصور على أفراد دون غيرهم؟ كيف يمكن لمن أكتسب حضوه عند الناس أن يستغلها في مصالحه؟. كيف تتحول الخرافة إلى فكرة مقنعة يمكن تصديقها؟. كيف تكون الخرافة مزرعة لتفريخ الأساطير؟.  كيف يحول الناس الخرافات إلى خوارق؟. لماذا يلجئ الناس لموضوع الخوارق في ترسيخ الإيمان؟. كيف ينشأ جيل تربى على البحث عن الخوارق؟. لماذا لا تسمى القوانين الكونية بالسنن الإلهية؟.  منهج القرآن في الدلائل الإيمانية هل يرتكز على الخوارق أم السنن الإلهية؟. في هذا المقالة سنحاول الإجابة على ما سبق وسنبحر في مفهوم الفراسة والخداع والشعوذة وفي تحديد الخرافة والأسطورة ونخوض في الخوارق والمعجزات. وقبل هذا وذلك سنحاول أن نحرر تلك المصطلحات ونوضح العلاقة بينها. 




فراسة أم خداع  أم شعوذة:نسمع كثيراً إن شخص ما قد ألهم موهبةً في قص الأثر أو موهبةً في تفسير الأحلام، ويقال أيضاً أن تلك الموهبة لا يماثله فيها أحد، ولا يمكن أن ينازعه عليها أحد. عندما يقال هذا الكلام  فإن معناه لا يعدوا أحداً من أمرين: أما أن الله أختار هذا الشخص لمزية فيه بين سائر البشر وخصه بين سائر البشر بعلم خاص، وهذا هو مقام الأنبياء. أو أن هذا الشخص أكتسب العلم اكتساباً من دراساته وتأملاته الخاصة لكن هذا العلم الذي لديه يمكن للآخرين أن يكتسبوه. الشائع عند الناس أن الفراسة وتفسير الأحلام علوم لا يبلغها إلا أفراد محددين ولا يمكن لتلك العلوم أن تكون شائعة عند الناس وذلك لعدم إمكانية إخضاعها للتقعيد ووضع قوانين مفهومة لها. هب أن شخصاً يستطيع أن يقتفي الأثر ويستطيع أن يدرك من خلال رؤيته للخطى والأثر أن يحدد شخصية صاحب ذلك الأثر فيما إذا كان ذكراً  أو أنثى، كبير أو صغير، أعمى أو أعور، سليم أو سقيم. هل هذا يقودنا للاستنتاج بأن هذا الشخص الموهوب قد نال إلهاماً فوق طاقة البشر.


لقد وجد من يقول بهذا القول فظنوا أن المقدرة على قص الأثر هي قدرة لا يصل إليها إلا فئة محددة من البشر ينتمون إلى القبيلة المشهورة آل مرة.  وأصبح مصطلح المريّ كلمة ترادف القدرة على قص الأثر.



ربما الكثير يستطيع أن يميز العرق الأوربي عن العرق العربي عن العرق الهندي عن العرق الصيني عن العرق الإفريقي. ومن خلال العرق الواحد كالعربي نستطيع أن نميز موطنه فيما إذا كان مصري أو سوري أو فلسطيني أو يمني أو سعودي. ومن خلال المواطنة نستطيع أن نميز منطقته فيما إذا كان من الشمال أو الجنوب أو الحجاز أو من نجد. ومن خلال المنطقة الوحدة تستطيع أن تبين موضع المدينة أو القرية والقبيلة والفخذ الذي ينتمي إليه. وقد يستطيع أحد أن يدعي أن له القدرة على تميز الناس بصورة أكثر تحديداً عندما يقوم بتحديد الأسرة التي ينتمي إليها شخص ما. إن هذه القدرة ممكن أن تكون لكنها في الواقع  لم تأتي من فراغ أو من إلهام. والحاصل أن الشخص عندما يكون لديه المقدرة على تمييز الأفراد وتصنيفهم بصورة دقيقة فإن هذا المقدرة لم تأت من قوى خارقة بل من خلال إمعان النظر في مجموعة من المثيرات والمدللات cues والتي  تسهم في تصنيف الأشياء والأشخاص بشكل دقيق. 



لو حق لأحد أن يدعي خصوصية الفراسة والإلهام فليس هناك أجدر من الطبيب أن يدعيها لنفسه. فيستطيع أن يتصفح وجهك ويخبرك بما تعاني منه من أمراض ويخبرك بنوع المأكل والمشرب الذي تناولته. ويرشدك لأفضل الأدوية التي تعالج حالتك. وحيث أن الطب علم مقعد وله قوانينه لذا فإنه خرج دائرة الإلهام إلى دائرة التقعيدأن تعذر استخراج القواعد من الموهبة هو ما يضفي على الموهبة رداء الإجلال والتعظيم والخصوصية. لكن جميع العلوم مهما كانت صعوبتها فإن لها أصول تقعيدية.



ولكي يحافظ الملهم كما يزعم عن نفسه على جاهه ووجاهته فإنه لا يحرص على أن يطلع الناس على مكمون تلك القواعد التي بنى عليها فراسته.  بل إنه ينفي وجود قواعد ضابطة لعلمه ويعتبر تلك القدرة من الإلهام الذي وهبه الله دون غيره. وقد يدعي بعلم الغيب وقدرة الكشف عن المستور أو يدعي لنفسه انه يمتلك قدرات فوق بشرية وهو كذاب أشر، إذ يستخدمون الخدع والحيل التي يوهمون من حولهم بأن لهم حضوه ومكانة وعلم لا يبلغه أحد.



وبالمختصر المفيد أن الفراسة وأساليب الحيل عندما تقعد قوانينها تخرج من كونها مختصة بفئة معينة إلى كونها معلومات عامة يمكن لعامة الناس إدراكها وعملها. لكن ما يجعلهم لا يقعدون ذلك هو خوفهم من سحب البساط منهم ويصبحوا والناس سواء.   الخرافة والأسطورة يمكن تعريف الخرافة على أنها الاعتقاد بوجود ظاهرة محيرة يستحيل تكونها أو أن تلك الظاهرة موجودة بالفعل لكن تفسير الناس لها أعطاها غطاء محير.  ووجود خرافة معينة مجال كبير لنسج الأساطير والحكاوي الكاذبة، ولذا فإن الخرافة هي منبع الأساطير والحواديث الخيالية.



كنا ونحن أطفال نذهب للجبل ونردد بصوت ملحون " بنت الجبل تبين قريص وإلا جعل". وحيث أن الجبل يعكس الصوت فيحدث الصدى وعندما ننتهي من الجملة نسمع الكلمة "جعل" وهي آخر ما تبقي من الصدى. ولا أخفيكم أنني على الرغم من تأكدي أن هذا الصوت هو صدى صوتي إلا أن من يحيط بي من الأطفال والكبار وقت ذاك يميلون للتصديق بأن هذا هو صوت لبنت محجوزة في الجبل. فأجدني أمام هذا التوجه العام مجبراً لتصديق هذه الخرافة.  



خذ مثلاً آخر لخرافة نسجت بسببها أساطير متعددة: هناك جبل معروف بالقرب من أحد القرى وهذا الجبل يصدر في بعض الأحيان أصواتاً يسمعها سكان القرية فيحكون أن فتاة ذهبت لهذا الجبل فأخذها الجني الذي يسكنه وتزوجها ويحكى أن شخصاً ذهب لذلك الجبل فقتله الجني صاحب الجبل. وقصص كثيرة وحدث ولا حرج من حكاوي وأساطير فليس هناك من ينقب أو يسأل أو يكذب.ولقد وجد أن ظاهرة خروج الأصوات من مصدر الجبل موجودة بالفعل وبعد التحري وجد أن في الجبل فتحات يدخل الهواء إليها من جهة ويخرج من جهة أخرى.  وعندما تهب الرياح من زاوية معينة يخرج صوت صفير له دوي.  وهكذا يسمع أهل القرية هذا الصوت غير الطبيعي ويظنونه صوت يتكلم. وهذا الصوت المجهول كان بذرة لنشأة هذه الخرافة.  



الإعجاز والخوارق والسنن.كانت معجزات الأنبياء قبل بعثة الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم- ترتكز على الخوارق، فنعلم أن موسى عليه السلام كانت معجزته تتمثل في العصا والتسع آيات الأخر ومعجزة عيسى تتمثل في إبراءه للأكمة والأبرص وإحياء الموتى ومعجزة ثمود تتمثل في الناقة. أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن معجزته الرئيسة تعتمد على الخوارق بقدر ما كانت تعتمد على إمعان النظر في الظواهر الكونية التي صاغها لنا القرآن المعجز.  



كثير من الوعاظ اليوم يحولون جوانب من المظاهر الطبيعية إلى خوارق كي يستميلوا قلوب الناس للإيمان. وكأن الإيمان لا يزيد إلا بحصول الخوارق، وأن الخوارق هي المصدر الوحيد للإقناع والإعجاز الإلهي. الأمثلة كثيرة لكنني سأورد مثالاً على ذلك: يقال مثلاً إن الله ألهم النمل المقدرة على التعرف على الطرق التي توصله إلى مخبئه دون أن يضل. 



ويصف بعض الوعاظ الكيفية التي يتعرف فيها النمل على دروبه بأنها سر من الأسرار الإلهية التي لا تخضع لعلم الإنسان وتقع في حوزة المجهول، ويستدل على أن هذه الكيفية التي نجهلها من الدلائل الواضحة على وجود الله وإعجازه سبحانه ويصف هذا الأمر على أنه شئ من الغيب ومن الأسرار التي لا يعلمها إلا الله.


لعلنا هنا نتوقف قليلاً عند هذه النقطة ونعاود مناقشتها.  أقول لو خرجت دراسة علمية تفسر سبب هذه الظاهرة وتفسر الكيفية التي تعرف النمل على مساراته، كما حصل بالفعل من وجود دراسة أثبتت وجود مواد كيميائية تسمى بالفرمونات تفرز من قبل النملة لكي يتعرف على رائحته مجموعة النمل فيمشى النمل حسب المسار الذي به الرائحة. إنه عندما يدعي واعظ من الوعاظ بأن ظاهر تتابع النمل مجرد إلهام من الله سبحانه وتعالى وسر من أسراره فإننا نقع في فخ التناقض عندما تأتي أبحاث تكشف سر المجهول. وهذا التسرع في حكم الواعظ قد يفضي إلى زعزعة إيمان من حوله.  وكأن الأمر الذي كان إعجازاً في فترة زمنية مضت لم يعد صالحاً ومقبولاً لأن يكون إعجازاً بعد معرفة السر. لذا فإن الاستعجال في ربط الكشوفات الحديثة بالإعجاز الإيماني يوقع في مزلق كبير.  





والحقيقة أن هذه الأبحاث التي أعطت تفسراً مادياً لسبب تتابع النمل لا تلغي حقيقة الإعجاز. أن الاستنتاج الذي يجب أن نخرج به هو أنه عندما نتعرف على فك السر الذي كان مجهولاً فإن هذا لا يتعارض مع إعجاز الله الخلقي. فالإعجاز ليس شرطاً أن يقع في وجود شي خارق ومجهول.  بل أن الإعجاز الإلهي يكمن من خلال تأمل القانون الطبيعي. أن نظام الفرمونات الذي يعرف الحشرات على مساراتها قانون من قوانين الله التي بموجبه تتعرف النملة على مخبئها. وهذا القانون بحد ذاته معجزة ودلالة على قدرة الله سبحانه.  ويعتبر البعض خطئاً انه عند حصول ظاهرة معينة ليس لها تفسير علمي ظاهر فإن هذه الظاهرة المجهولة تعتبر صيدأً ثميناً للدلالة على موضوع الإعجاز، بينما تعتبر الظواهر المعروفة الأسباب المادية على أنها بيانات لا تخدم موضوع  الإعجاز.وبالجملة، فإن الأعجاز لا يتم في غياب القانون بل إن القانون ذاته هو دليل على الأعجاز. وهذا أمر واضح عند تأمل الكثير من الآيات القرآنية، فتجد في القرآن الكريم آيات كثيرة ترشد إلى التأمل في القوانين الكونية والتأمل في مخلوقات الله والتأمل في النظام البديع الذي يسير عليه الكون وتنتظم الحياة.




تعالوا بنا نقتطف من آيات القران الحكيم طريقته المثلى للمحاجة مع النفس البشرية وكيف أن التأمل في القوانين الطبيعة هو ما يستدل به على وجود الله ووحدانيته. "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون. البقرة .164". "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينها إلا بالحق .الروم .8"."أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة .فاطر .44".ً"قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق .العنكبوت .20". " انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِه .الأنعام .99"ِ.



"أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شي حي أفلا يؤمنون . * وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون * وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون * وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون .الأنبياء .30-35"عندما نتأمل الدعوات التالية (أنظروا..،  أولم يسيروا..., قل  سيروا..., أولم يتفكروا...) فهي دعوات من الله سبحانه وتعالى للتأمل في السنن الكونية الظاهرة الواضحة للعيان. فالله سبحانه أمر بالتدبر فيها والنظر في القوانين التي تنظمها والتي هي من صنعه تعالى. لم تكن الدلائل على أشياء خافيه للعيان لا يراها إلا أفراد محددون أو خوارق لطبيعة القوانين الكونية بل كان لفت الانتباه لتلك القوانين وذلك النظام البديع في الكون والحياة الذي يشهد بعظمة خالقه وموجده. أن الخوارق أثناء وقوعها لا يرها إلا أفراد محددون كانوا موجودين وقت نزول تلك الخارقة، أما السنن الكونية فهي متاحة على الدوام.   


 كثير من المتحمسين اليوم يصاب بخيبة أمل عندما يكتشف تفسير ظاهرة كونية أو حيوية كانت في الماضي في عالم المجاهيل والتي كانوا يستندون بها على أنها من المعجزات. فكأن التفاسير الجديدة للظواهر تحدث تشويشاً لقناعات سابقة من أن هذا الأمر الذي كان خارقاً لم يعد يصلح للاستدلال به في موضوع الإعجاز. واللافت للنظر أن الآيات القرآنية تدعوا للتفكر في السنن الإلهية والقوانين الكونية والأنظمة الحيوية كبوابات أساسية للبراهين الإيمانية.قال الشاعر السوداني إبراهيم بديوي رحمه الله في قصيده رائعة المعاني والإيقاع: قل للطبيب تخطفته يد الردى *** يا شافي الأمراض : من أرداكا؟قل للمريض نجا وعوفي بعد ما *** عجزت فنون الطب : من عافاكا؟قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا ياصحيح دهاكا؟قل للبصير وكان يحذر حفرة ***فهوى بها من ذا الذي أهواكا؟بل سائل الأعمى خطا بين الزَّحام *** بلا اصطدام : من يقود خطاكا؟قل للجنين يعيش معزولا بلا *** راع ومرعى : مالذي يرعاكا؟قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء *** لدى الولادة : مالذي أبكاكا؟وإذا ترى الثعبان ينفث سمه *** فاسأله : من ذا بالسموم حشاكا؟وأسأله كيف تعيش ياثعبان أو *** تحيا وهذا السم يملأ فاكا؟وأسأل بطون النحل كيف تقاطرت ***شهداً وقل للشهد من حلاَّكا؟بل سائل اللبن المصفى كان بين *** دم وفرث مالذي صفاكا؟وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا *** ميت فاسأله: من أحياكا؟وإذا ترى ابن السودِ أبيضَ ناصعاً *** فاسأله : مِنْ أين البياضُ أتاكا؟وإذا ترى ابن البيضِ أسودَ فاحماً *** فاسأله: منْ ذا بالسواد طلاكا؟قل للنبات يجف بعد تعهد *** ورعاية : من بالجفاف رماكا؟وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو *** وحده فاسأله : من أرباكا؟وإذا رأيت البدر يسري ناشرا *** أنواره فاسأله : من أسراكا؟وأسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبعد *** كلّ شيء مالذي أدناكا؟قل للمرير من الثمار من الذي *** بالمر من دون الثمار غذاكا؟وإذا رأيت النخل مشقوق النوى *** فاسأله : من يا نخل شق نواكا؟وإذا رأيت النار شب لهيبها *** فاسأل لهيب النار: من أوراكا؟وإذا ترى الجبل الأشم منا طحاً *** قمم السحاب فسله من أرساكا؟وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال *** جرى فسله؟ من الذي أجراكا؟وإذا رأيت البحر بالملح الأجاج *** طغى فسله: من الذي أطغاكا؟وإذا رأيت الليل يغشى داجيا *** فاسأله : من ياليل حاك دجاكا؟وإذا رأيت الصبح يُسفر ضاحياً *** فاسأله: من ياصبح صاغ ضحاكا؟هذي عجائب طالما أخذت بها *** عيناك وانفتحت بها أذناكا!والله في كل العجائب ماثل *** إن لم تكن لتراه فهو يراكا؟يا أيها الإنسان مهلا مالذي *** بالله جل جلاله أغراكا؟



هذه القصيدة الرائعة المعاني الرائعة الإيقاع تسوق كثيراً من المظاهر الكونية والعمليات الحيوية ولك أن تقف مع تلك الأبيات محلقاً ومتدبراً للمعاني. لكننا لو أردنا أن نقف وقفة تحليلية لمكنونات الاستفهامات المعروضة في جملة من الأبيات التي أتى عليها الشاعر، فإننا سنجد أن الشاعر ذكر بعض الظواهر على أنها خوارق وأسرار لا يعلمها إلا الله. والحقيقة التي يجب أن تقال أن تلك الظواهر لها تفسيرات علمية مادية.  وبالرغم من ذلك فهذا لا يعنى أن معرفة التفسيرات التجريبية تقود إلى كسر مسألة الإعجاز لأن ما تم معرفته هو كيفية عمل تلك الأشياء والقانون المنظم لها, ولكن يبقى أن هذا القانون المنظم هو ما يستدل به على الإيمان.



وتأكيداً لما سبق فأن التدبر في نظام تلك المظاهر هو مكمن الأعجاز،  وليس من الشرط أن يتحقق الإعجاز في ظل ظاهرة مخفية الأسباب مجهولة المعالم.  إن الأسرار ليست هي بذاتها مكمن الإعجاز بل إن الإعجاز يكمن في ظل وجود القانون الظاهر المشاهد. وهذا القانون المشاهد هو ما يجب تسميته بالسنن الإلهية. فالسؤال الذي يحول تلك الظاهرة إلى دليل إيماني هو التساؤل حول من وضع تلك القوانين المنضبطة والمتسقة فيما بينها؟.  فلا يمكن أن تأتي تلك القوانين اعتباطا.  أن هذا التساؤل هو ما يحول الكشف في تلك القوانين إلى  مادة تأملية تدعوا للإيمان بأن الله أحسن كل شي خلقه. في السنوات القليلة لماضية خرجت نظرية شاعت في الغرب بعنوان التصميم الذكي Intelligent design تؤكد على أن نظام الكون والحياة مدعاة للتأمل وأن مجموعة القوانين التي تنظمه لم تأتي من فراغ بل من تقرير خالق واحد. هذه النظرية جاءت كرد على من يدعي باطلاً بأن القوانين  الطبيعية جاءت بمحض الصدفة وليس من تدبير الخالق.




الإشاعات والخرافات والخوارق  كثير من الأحيان عندما يريد بعض الواعظ أن يستثير الدوافع الإيمانية لعامة الناس فإنه يلجئ للحديث عن قصة أو حدث يحكي خارقة من الخوارق. وكثيراً ما تكون الخارقة خرافة أو قصة مختلقة.


لعلي هنا أن أسرد خمس من القصص والأحداث التي تدار بين الناس على اعتبار أنها من الخوارق وهي ليست كذلك.سمعت بنفسي قصة لرجل يستهزئ بالأذان - نعوذ بالله من ذلك- وعندما مات هذا الشخص قيل أن رأسه تحول إلى رأس حمار. وقد قيل إن الذي لا يصدق هذا الحدث فليسأل مؤذن المسجد الموجود بالحي الفلاني. وانتشرت تلك القصة بين جموع الناس بشكل سريع ومع قرب المسجد إلا أن أحداً لم يكلف نفسه مسألة التأكد. ولكن عند الرجوع لمؤذن المسجد الذي قالوا عنه تبين أن القصة ليست صحيحة.سمعت أيضاً بقصة لامرأة استهزأت برجل صالح وقيل إنها قالت كلمات تتحدى الله فيها، فعاقبها الله في الحال وجاءتها صيحة ماتت في الحال. وكانت هذه الحادثة غير صحيحة. 



وسمعت بقصة أخرى كان تفسيرها أن جني لا يتكلم العربية دخل في امرأة ثم اسلم. وبالرغم من إن الحادثة وقعت إلا أن تفسيرها لم يكن صحيحاً. فلقد ذكر أن المرأة لا تحسن إطلاقاً لغة الفلبين وأن الجني الفلبيني –زعموا- قد تكلم على لسانها وأخذ العهد من الشيخ بأن لا يعود وأنه سيسلم. إلا أنه بعد قليل من التحري تبين أن المرأة هذه لديها سابقة بالحديث عن تلك اللغة  وأنها بعد معافاتها ضحكت عما أشيع عنها بل إنها تباهت بأنها استطاعت تضليل الآخرين. 



بعد حادثة تسونامي أشيع أن هناك أعداد غفيرة من المجانين في مستشفى الأمراض النفسية بشهار في الطائف قد خرجوا من المستشفى بسبب أنهم تعافوا. وكان التفسير في هذا الحدث أن هناك مجاميع من العقد السحرية  موجودة في دولة اندونيسيا وأن تلك العقد تفككت بعد حصول الفيضان. وبعد السؤال والتحري خرج تكذيب من إدارة المستشفى نشر في الصحف عن ما أثير. الغريب في الأمر أنه بالرغم من تكذيب إدارة المستشفى فلا زال الناس مصدقين بتلك الكذبة.  


بعد التعدي على حرمة رسولنا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- في صحافة الدينماركظهرت في بعض منتديات  الشبكة العنكبوتية صور لشارع قد انخسف. وكان التعليق على الصورة بأن هذا خسف من الله بسبب تعديهم على نبينا. وروجت تلك الصور في منتديات أخرى بدعوى عقاب الله لتلك الأمم. لكن عند التحري وجد أن الصورة أساساً لأحد الشوارع في دولة كندا وأن هذه الصور سبقت حادثة التعدي على حرمة الحبيب المصطفى بزمن. 



هذه القصص وأمثالها كثير وكثير، إلا أن البعض عندما يتحدث بها فإن الحماس يأخذ به إلى التصديق بأحداثها دون تردد. فتسمعه مثلاً يقول: أن من نقل تلك القصة شخص ثقة أو صادق أو لا أشك فيه أو أن هذه القصة وقعت لأبن جيران أو قريب لنا. وهكذا تلبس الإشاعة رونقاً جميلاً لا تدع مجالاً للمستمع أن يشكك في ثبوتها. وللأسف الشديد أنك عندما تتحدث عن بطلان تلك القصة فإن هناك فئة تتهمك بأنك لا تؤمن بقدرة الله وأنك .. . والفئة الأخرى تصاب الناس بخيبة أمل عندما تعرف الحقيقة لأن هذه الأحداث كانت مما يقوي إيمانهم. الحاصل أننا يجب أن نسعى للتدقيق في القصص الخارقة ولا نجري خلف الإشاعات دون تحري وتثبت.



إن المتأمل لحوار كفار قريش مع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يستنتج أن الكفار كانت لديهم نزعة عالية لطلب نزول مستمر للمعجزات والخوارق المادية كما قال الله عنهم (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ينبوعا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا .الإسراء .93). 


إن النزعة لجعل الخوارق هي المصدر الوحيد للإيمان والاقتناع هي نزعة ممقوتة بنص القرآن. لقد كانت نزول خوارق الأنبياء أمراً فاصلاً بين العذاب والرحمة، وبين الإيمان والكفر، كما حكى الله عن معجزة ثمود (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا .الإسراء .59). أن ما يتميز به الدين الإسلامي أن خطابه خطاب عقلي يدعوا للعقل والنظر والتفكر في الآيات الظاهرات.



أخير أود أن أتساءل إلى متى نلهث خلف الأحداث والمشاهد الخارقة، وإلى متى نربي أجيالنا على أن مصدر الإيمان هو القصص الخارقة، رغم أن في المشاهد المعاينة الدليل القاطع على وحدانية الله سبحانه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق